فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ الزهري {لِيَعْلَمَ} بالباء على إسناد الفعل إليه تعالى بطريق الالتفات، وأيًا ما كان فالعلم غاية للبعث وليس ذلك على ظاهره وإلا تكن الآية دليلًا لهشام على ما يزعمه تعالى الله تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا فقيل هو غاية بجعله مجازًا عن الإظهار والتمييز، وقيل: المراد ليتعلق علمنا تعلقًا حاليًا مطابقًا لتعلقه أولًا تعلقًا استقباليًا كما في قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] واعترضه بعض الأجلة بأن بعث هؤلاء الفئة لم يترتب عليه تفرقهم إلى المحصي وغيره حتى يتعلق بهما العلم تعلقًا حاليًا أو الإظهار والتمييز ويتسنى نظم شيء من ذلك في سلك الغاية كما ترتب على تحويل القبلة انقسام الناس إلى متبع ومنقلب فصح تعلق العلم الحالي والإظهار بكل من القسمين وإنما الذي ترتب على ذلك تفرقهم إلى مقدر تقديرًا غير مصيب ومفوض العلم إلى الله عز وجل وليس في شيء منهما إحصاءً أصلًا، ثم قال: إن جعل ذلك غاية بحمل النظم الكريم على التمثيل المبني على جعل العلم عبارة عن الاختبار مجازًا بإطلاق اسم المسبب على السبب وليس من ضرورة الاختبار صدور الفعل المختبر به عن المختبر قطعًا بل قد يكون لإظهاره عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية كقوله تعالى: {فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258] وهو المراد هنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم أيهم أحصى لما لبثوا أمدًا فيظهر لهم عجزهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم فيزدادوا يقينًا بكمال قدرته تعالى وعلمه ويستبصروا به أمر البعث ويكون ذلك لطفًا لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم، وقد اقتصر هاهنا من تلك الغايات الجليلة على مبدئها الصادر عنه سبحانه وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدي إليها وهذا أولى من تصوير التمثيل بأن يقال بعثناهم بعث من يريد أن يعلم إذ ربما يتوهم منه استلزام الإرادة لتحقق المراد فيعود المحذور فيصار إلى جعل إرادة العلم عبارة عن الاختبار فاختبر واختر انتهى.
وتعقبه الخفاجي بأن ما ذكره مع تكلفه وقلة جدواه غير مستقيم لأن الاختبار الحقيقي لا يتصور ممن أحاط بكل شيء علمًا فحيث وقع جعلوه مجازًا عن العلم أو ما يترتب عليه فلزمه بالآخرة الرجوع إلى ما أنكره واختار جعل العلم كناية عن ظهور أمرهم ليطمئن بازدياد الإيمان قلوب المؤمنين وتنقطع حجة المنكرين وعلم الله تعالى حيث تعذر إرادة حقيقته في كتابه تعالى جعل كناية عن بعض لوازمه المناسبة لموقعه والمناسب هنا ما ذكر، ثم قال: وإنما علق العلم بالاختلاف في أمده أي المفهوم من أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدًا لأنه ادعى لإظهاره وأقوى لانتشاره.
وفي الكشف توجيهًا لما في الكشاف أراد أن العلم مجاز عن التمييز والإظهار كأنه قيل لنظهر ونميز لهم العارف بأمد مال بثوا ولينظر من هذا العارف فإنه لا يجوز أن يكون أحدًا منهم لأنهم بين مفوض ومقدر غير مصيب، والفرق بين ما في الكشف وما ذكره الخفاجي لا يخفى على بصير وما في الكشف أقل مؤنة منه وتصوير التمثيل بأن يقال: بعثناهم بعث من يريد أن يعلم أحسن عندي من التصوير الأول، والتوهم المذكور مما لا يكاد يلتفت إليه فتدبر جدًا وقرئ: {لِيَعْلَمَ} مبنيًا للفاعل من الإعلام وخرج ذلك على أن الفاعل ضميره تعالى والمفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه و{أَيُّ الحِزْبَيْنِ} إلخ من المبتدأ والخبر في موضع مفعولي نعلم الثاني والثالث، والتقدير ليعلم الله الناس أي الحزبين الخ، وإذا جعل العلم عرفانيًا كانت الجملة في موضع المفعول الثاني فقط وهو ظاهر وقرئ: {لِيَعْلَمَ} بالبناء للمفعول وخرج على أن نائب الفعل محذوف أي ليعلم الناس والجملة بعد أما في موضع المفعولين أو المفعول حسبما سمعت، وقال بعضهم: أن الجملة هي النائب عن الفاعل وهو مذهب كوفي ففي البحر البصريون لا يجوز كون الجملة فاعلًا ولا نائبًا عنه وللكوفيين مذهبان، أحدهما أنه يجوز الإسناد إلى الجملة مطلقًا، والثاني أنه لا يجوز إلا إذا كان المسند مما يصح تعليقه وتحقيق ذلك في محله. اهـ.

.قال القاسمي:

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} أي: آية ذات عجب. على حذف مضاف. أو وصفًا بالمصدر مبالغة و: {مِنْ آيَاتِنَا} حال منه و: {أَمْ} للاستفهام التقريري بمعنى الهمزة. أي: أنهم من بين آياتنا آية عجيبة. وجعلها منقطعة مقدرة ببل والهمزة والاستفهام للإنكار- أي: إنكار حسبانهم آية عجيبة بالنسبة إلى آياته الكبرى- فيه بُعدٌ. لأن سياق النظم الكريم، أعني سوقها مفصلة منوهًا بها، ما هو إلا لتقرير التعجب منها. و: {الْكَهْفِ} الغار الواسع في الجبل. و: {الرَّقِيم} اسم كلبهم. وقيل لوح رقيم فيه حديثهم، وجعل على باب الكهف. وقيل الجبل أو الوادي، أقوال.
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} أي: خوفًا من إيذاء الملك على ترك عبادة الأوثان والذبح لها. وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق حالهم بتغليبهم جانب الله على جانب أهويتهم في حال شبابهم: {فَقَالُوا رَبَّنَا} أي: من ربانا بنعمة إيثار جانبه على جانب أنفسنا: {آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي: من خزائنك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداد: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا} وهو اختيار الكهف لمفارقة الكفار: {رَشَدًا} وهو توحيدك وعبادتك.
{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} أي: أنمناهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخبير، ولا دعوة الداعي الخبير، في الكهف سنين ذوات عدد. أي: كثيرة أو معدودة. قال الشهاب: ضربنا مستعار استعارة تبعية لمعنى أنَمْنَاهم إنامة لا ينتبه منها بالصياح. لأن النائم ينتبه من جهة سمعه. وهو إمّا من ضربت القفل على الباب أو ضربت الخباء على ساكنه شُبِّه؛ لاستغراقه في نومه حتى لا ينتبه بمنبه، بمن كان خلف حجب مانعة من وصول الأصوات إليه، وقيل إنه استعارة تمثيلية.
{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أي: أيقظناهم إيقاظًا يشبه بعث الموتى: {لِنَعْلَمَ أي الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} أي: لنعلم واقعا ما علمنا أنه سيقع. وهو أي: الحزبين المختلفين في مدة لبثهم، أشد إحصاء، أي: إحاطة وضبطا لغاية مدة لبثهم فيعلموا قدر ما حفظهم الله بلا طعام ولا شراب، وأمنهم من العدو، فيتمّ لهم رشدهم في شكره، وتكون لهم آية تبعثهم على عبادته. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)}.
{أم} للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض.
ولما كان هذا من المقاصد التي أنزلت السورة لبيانها لم يكن هذا الانتقال اقتضابًا بل هو كالانتقال من الديباجة والمقدمة إلى المقصود.
على أن مناسبة الانتقال إليه تتصل بقوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا} [الكهف: 6]، إذ كان مما صرف المشركين عن الإيمان إحالتهم الإحياء بعد الموت، فكان ذكر أهل الكهف وبعثِهم بعد خمودهم سنين طويلة مثالًا لإمكان البعث.
و{أم} هذه هي {أم} المنقطعة بمعنى بل، وهي ملازمة لتقدير الاستفهام معها، يقدر بعدها حرف استفهام، وقد يكون ظاهرًا بعدها كقول أفْنُون التغلبي:
أنّى جَزَوا عامرًا سُوءًا بضعته ** أم كيف يجزونني السُّوأَى عن الحسن

والاستفهام المقدر بعد أم تعجيبي مثل الذي في البيت.
والتقدير هنا: أحسبت أن أصحاب الكهف كانوا عجبًا من بين آياتنا، أي أعجب من بقية آياتنا، فإن إماتة الأحياء بعد حياتهم أعظم من عجب إنامة أهل الكهف.
لأن في إنامتهم إبقاءً للحياة في أجسامهم وليس في إماتة الأحياء إبقاء لشيء من الحياة فيهم على كثرتهم وانتشارهم.
وهذا تعريض بغفلة الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم بيان قصة أهل الكهف لاستعلام ما فيها من العجب، بأنَهم سألوا عن عجيب وكفروا بما هو أعجب، وهو انقراض العالم، فإنهم كانوا يعرضون عن ذكر فناء العالم ويقولون: {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24].
أي إن الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة الآخرة وأن الدهر يهلكنا وهو باققٍ.
وفيه لفت لعقول السائلين عن الاشتغال بعجائب القصص إلى أن الأولى لهم الاتعاظ بما فيها من العِبر والأسباب وآثارها.
ولذلك ابتدئ ذكر أحوالهم بقوله: {إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا} [الكهف: 10] فأعلم الناس بثبات إيمانهم بالله ورجائهم فيه، وبقوله: {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} [الكهف: 13].
الآيات الدالِّ على أنهم أبطلوا الشرك وسفهوا أهله تعريضًا بأن حق السامعين أن يقتدوا بهداهم.
والخطاب للنبيء.
والمراد: قومه الذين سألوا عن القصة، وأهل الكتاب الذين أغروهم بالسؤال عنها وتطلب بيانها.
ويظهر أن الذين لقنوا قريشًا السؤال عن أهل الكهف هم بعض النصارى الذين لهم صلة بأهل مكة من التجار الواردين إلى مكة؛ أو من الرهبان الذين في الأديرة الواقعة في طريق رحلة قريش من مكة إلى الشام وهي رحلة الصيف.
ومحل التعجب هو قوله: {من آياتنا}، أي من بين آياتنا الكثيرة المشاهدة لهم وهم لا يتعجبون منها ويقصرون تعجبهم على أمثال هذه الخوارق؛ فيؤول المعنى إلى أن أهل الكهف ليسوا هم العجب من بين الآيات الأخرى، بل عجائب صنع الله تعالى كثيرة منها ما هو أعجب من حال أهل الكهف ومنها ما يساويها.
فمعنى {مِن} في قوله: {من آياتنا} التبعيض، أي ليست قصة أهل الكهف منفردة بالعجب من بين الآيات الأخرى، كما تقول: سأل فلانًا فهو العالم منا، أي المنفرد بالعلم من بيننا.
ولك أن تجعلها للظرفية المجازية، أي كانوا عجبًا في آياتنا، أي وبقية الآيات ليست عجبًا.
وهذا نداء على سوء نظرهم إذ يعلقون اهتمامهم بأشياء نادرة وبين يديهم من الأشياء ما هو أجدر بالاهتمام.
وأخبر عن أصحاب الكهف بالعجب وإنما العجب حالهم في قومهم، فَثمّ مضاف محذوف يدل عليه الكلام.
وأخبر عن حالهم بالمصدر مبالغة، والمراد عجيب.
والكهف: الشق المتسع الوسط في جبل، فإن لم يكن متسعًا فهو غار.
والرقيم: فعيل بمعنى مفعول من الرقم وهو الكتابة.
فالرقيم كتاب كان مع أصحاب الكهف في كهفهم.
قيل: كتبوا فيه ما كانوا يدينون به من التوحيد، وقيل: هو كتاب دينهم، دينٍ كان قبل عيسى عليه السلام، وقيل: هو دين عيسى، وقيل: كتبوا فيه الباعث الذي بعثهم على الالتجاء إلى الكهف فرارًا من كفر قومهم.
وابتدأ القرآن من قصتهم بمحل العبرة الصادقة والقدوة الصالحة منه، وهو التجاؤهم إلى ربهم واستجابته لهم. وقد أشارت الآية إلى قصة نفَر من صالحي الأمم السالفة ثبتوا على دين الحق في وقت شيوع الكفر والباطل فانزووا إلى الخلوة تجنبًا لمخالطة أهل الكفر فأووا إلى كهف استقروا فيه فرارًا من الفتنة في دينهم، فأكرمهم الله تعالى بأن ألقَى عليهم نومًا بقُوا فيه مدة طويلة ثم أيقظهم فأراهم انقراض الذين كانوا يخافونهم على دينهم.
وبعد أن أيقنوا بذلك أعاد نومتهم الخارقة للعادة فأبقاهم أحياء إلى أمد يعلمه الله أو أماتهم وحفظ أجسادهم من البِلى كرامة لهم.
وقد عَرَف الناس خبرهم ولم يقفوا على أعيانهم ولا وقفوا على رقيمهم، ولذلك اختلفوا في شأنهم، فمنهم من يثبت وقوع قصتهم ومنهم من ينفيها.
ولما كانت معاني الآيات لا تتضح إلا بمعرفة ما أشارت إليه من قصة أهل الكهف تعين أن نذكر ما صح عند أعلام المؤرخين على ما فيه من اختلاف.
وقد ذكر ابن عطية ملخصًا في ذلك دون تعريج على ما هو من زيادات المبالغين والقُصّاص.
والذي ذكره الأكثر أن في بلد يقال له أَبْسُس بفتح الهمزة وسكون الموحدة وضم السين بعدها سين أخرى مهملة وكان بلدًا من ثغور طرسوس بين حلب وبلاد أرمينية وأنطاكية.
وليست هي أفسس بالفاء أخت القاف المعروفة في بلاد اليونان بشهرة هيكل المشتري فيها فإنها من بلاد اليونان وإلى أهلها كتب بُولس رسالته المشهورة.
وقد اشتبه ذلك على بعض المؤرخين والمفسرين.
وهي قريبة من مَرْعش من بلاد أرمينية، وكانت الديانة النصرانية دخلت في تلك الجهات، وكان الغالب عليها دين عبادة الأصنام على الطريقة الرومية الشرقية قبل تنصر قسطنطين، فكان من أهل أبسُس نفر من صالحي النصارى يقاومون عبادة الأصنام.
وكانوا في زمن الأنبراطور دوقيوس ويقال دقيانوس الذي ملك في حدود سنة 237.
وكان ملكه سنة واحدة.
وكان متعصبًا للديانة الرومانية وشديد البغض للنصرانيّة، فأظهروا كراهية الديانة الرومانية.
وتوعدهم دوقيوس بالتعذيب، فاتفقوا على أن يخرجوا من المدينة إلى جبل بينه وبين المدينة فرسخان يقال له بنجلوس فيه كهف أووا إليه وانفردوا فيه بعبادة الله.
ولما بلغ خبر فرارهم مسامع الملك وأنهم أووا إلى الكهف أرسل وراءهم فألقى الله عليهم نومةً فظنهم أتباعُ الملك أمواتًا.
وقد قيل: إنه أمر أن تُسد فوهة كهفهم بحائط، ولكن ذلك لم يتم فيما يظهر لأنه لو بني على فوهة كهفهم حائط لما أمكن خروج من انبعث منهم.
ولعل الذي حال دون تنفيذ ما أمر به الملك أن مدته لم تطل في الملك إذ لم تزد مدته على عام واحد، وقد بقوا في رقدتهم مدة طويلة قربها ابن العبري بمائتين وأربعين سنة، وكان انبعاثهم في مدة مُلك ثاوذوسيوس فيصر الصغير، وذكر القرآن أنها ثلاثمائة سنة.